Wednesday, October 04, 2006

حسن

دقائق قليلة و يؤذن للفجر ، الوقت يمضي حثيثا في هذه النوبتجية الطويلة التي اقضيها في غرفة الاستقبال ، احاول تضييع الوقت بالتأمل قليلا ، تصطدم عيني بالجدران الخضراء الداكنة المتآكلة و السقف الذي تلقي عليه مروحة قديمة تصدر صوتا رتيبا ظلالا كئيبة .
افيق من شرودي علي صافرة الاسعاف ، يهرع الجميع الي الباب ، يندفع من السيارة السرير ذو العجلات حاملا رجلا يبدو عجوزا ، و يبدو ايضا انه في حالة يرثي لها .ضوضاء الاسعاف و عجلات السرير و مصاريع الابواب التي تفتح و تغلق في عنف افسد جلال صمت هذه اللحظات .
افيق اوصلنا الرجل بالشاشات التي تعرض نبض القلب ، كان القلب ضعيفا و لم يعد يقوي علي الاحتمال اكثر ، تندفع الحقن المختلفة الي اوردة الرجل و جهاز النبض يصدر صوتا منتظما و المكان يعج بالحركة لكن دون كلام و انا في ركن بعيد قليلا لم اندمج ، ربما لم اخرج تماما من شرودي السابق .
العينان تبحثان عن شخص ما ، يريد ان يقول شيئا لكنه لا يقدر ، بحثت بعيناي في المكان ربما اجد ما يبحث عنه ، عند الباب وجدت فتاة معها رجل يبدو زوجها او خطيبها و يبدو عليهما الوجل ، دموع الفتاة تنساب لكن في صمت ، كنت سافتك بهما لو اخذت في الولولة و الصراخ كما تفعل السيدات من البسطاء لكن عيناهما كانت تشع بالايمان ، جاء من ورائهما رجلان في منتصف العمر ، كان احدهما بدينا يكاد يبكي ، و الاخر طويل يحاول ان يكون متماسكا و يفعل ما يلزم .
الخط المتصل المشئوم و الصفير المتصل ، لم يتحمل القلب المتعب اكثر من هذا و قرر ان يستسلم ، خلع الصوت قلبي و اعصابي رغم ان المفترض ان اكون معتادا هذه الامور ، قفزت الي الرجل محدقا الي الشاشة الصلبة التي تابي التفاهم ، مزيد من الحركة دون كلام ، حقن اخري تنساب الي ذراع الرجل و انا بجوار السرير اضغط بعنف بكلتا يداي علي صدره عل قلبه يستجيب ، الشاشة العنيدة فقط ترد بصفيرها و الخط المتصل ، انظر للاطباء الاخرين ، اليس هناك شيء اخر نفعله ، مزيد من الحقن و انا منكب علي صدر الرجل و الالم يعتصر ذراعاي و الشاشة العنيدة تصر علي رسالتها .
العرق ينساب من جبهتي ليتساقط علي وجه الرجل ، هذا الوجه يبدو اصغر مما بدا لي في البداية ، عينان يحيطهما سواد من اثر مرض طويل و ذقن نابتة قليلا و جبهة عريضة توحي بالصراحة و كان ممتلئا قليلا ، بدا علي الوهن و اقترب مني احد الزملاء لياخذ مكاني لانني متعب ، لم اتزحزح ، واصلت المحاولة ، الوقت يمر ويحمل الياس لايدي وعيون الاطباء من حولي ، التفت الي الباب ، كانت الفتاة تبكي دون صراخ و تكاد تسقط و الرجل الذي معها يسندها كي لا تقع ، كانت تتذكر حين قابلت هذا الرجل لاول مرة في الجامعة ، كان يذكرها بابيها في اشياء كثيرة ، طيبا ، شهما جدأ مع الاصدقاء و الجيران ، كان يخدم زملاؤه في الكلية في كل شيء ، تلقائيا لم يحاول ان يبدو نجما ، احبته كما هو بظروفه المادية الصعبة .
و كان هو يحاول التماسك لكن احمرار وجهه و ارتعاشة يديه و دمعة انسابت من عينيه صرحتا بجزعه ، كان يتذكر يوم قابل فتاته بطيبتها و تلقائيتها و حنانها ، احتوته تماما و احبها رغم انه لا يملك الكثير ، تذكر كيف قابله ابوها بابتسامة حانية و قاطع ديباجته الطويلة سائلا " بتحبها ؟" ، و كيف اداخه الخجل قبل ان يجيب " اكتر من نفسي " فيرد الاب " يبقي تخليها في عنيك وتسعدها " ، لم يطلب منه اي شيء مما توقعه من طلبات الزواج الكثيرة ، ساعده كثيرا كي يطمئن عليهما في عشهما الصغير .
الرجل الطويل جلس فلم تعد رجله تحتمل ، كم من الاهوال شهداه معا ، هو و "حسن" صديق العمر ، كم من طلقات الرصاص و دانات المدافع انفجرت حولهما في حرب اكتوبر ، كم من المرات ارعبه حسن عندما كان يطلع فجأه من مخبأه ليحصد ارواح الجنود الصهاينة المذعورين .
تذكر عندما ماتت زوجته ، كم تأثر ، كم تغير بعدها ، صارت حياته ماسخة بلا طعم ، وضع همه كله في تربية بنته الوحيدة التي كانت تشبه امها كثيرا ، كثيرا ما نصحه بالزواج لكنه كان يرفض في غضب " اخص عليك يا محمود ، اتجوز بعد ام مريم الله يرحمها ، ربنا يخليلي مريم ، هي العوض "
الصفير الكئيب يخنق الجو و الخط المتصل يندب في قلبي ، و انا اضغط عم حسن في عنف و قد هدأت حركة الجميع من حولي ، اطرقت كبيرة الاطباء برأسها محدقة في الارض ، مضي من الوقت اكثر من اللازم ، و انا اواصل الضغط ، تتداعي الي عقلي صفحات من كتب الطب تتحدث عن الوقت اللازم لموت المخ ، و انا اعاند ، احاول ان استمد العون من اي ممن حولي ، و الرجل البدين الطيب يقف خلفي و ينظر الي في شفقة لم احتملها ، كان يتذكر شهامة الاستاذ حسن مع كل اهل الشارع ، كانت الحاجة الساقعة بعد كل نجاح او فرح عند الاستاذ حسن ، كان يسبق الكل بالتهنئة بالعيد او قدوم رمضان ، يحكم بين سكان البيت في الخلاف حول الايجار ، يوم نجح ابنه في الثانوية – و كان اصغر من مريم بسنة – حلف انه هو الذي سيحضر كل اوراق التنسيق و يقدمها بنفسه لانه عرف النظام من العام السابق .
بدأ الوهن يدب الي ذراعاي ، احس بأختناق شديد و حنق لا اعرف كيف اوجهه ، من تحت العرق المتساقط في عيني اري خطا يتشكل صاعدا ثم نازلا ، الصفير صار متقطعا ، نظرت حولي في غير فهم ، الحركة تعود للمكان ، احدهم يبعدني عن السرير ، اسقط في الركن من الاعياء ، عيون الاطباء تلمع بالدهشة ، في هذه اللحظة وجدت عينا الاستاذ حسن ما تبحث عنه ، مريم لا تزال الدموع في عينيها لكنها الان تبتسم .

9 ليف يور كومنت هير بليز:

sarah la tulipe rose said...

انا حسيت اني كمان اعرف حسن و مريم
انا زمااااان كان الموت عندي شيء غامض و مرعب و فاكراه بعيد عننا و بيحصل للتانيين بس دلوقت الواحد كبر اكتر و فهم اكتر و عرف ان في لحطة واحدة الشمعة تطفي و اصعب حاجة انك مابتلحقش تودع اللي مات و مابتلحقش تعرفه انت كنت بتحبه اد ايه كل حاجة حاساها في بلدنا بقت بعد فوات الاوان

LAMIA MAHMOUD said...

يعني يرضيك افتح البلوج الساعة 6 الصبح عشان الاقي قدامي مووت
عموما حلو .. وانا عيشت معاهم قوي

Unknown said...

مع أنك حسستنى أن الدنيا لونها رمادى غامق الا انك مازلت تدهشنى بقدرتك على اظهار التفاصيل

كل مره أقابلك فيها بقعد أدور على المخالب اللى بتنبش علشان تظهر الخفى فى نفوس بنى ادمين كتير

هسألك سؤال عارف أنه غلط يتسأل لأى حد بيكتب قصه

فين الجزء الحقيقى؟
تخيل لحد دلوقتى ما عرفتش الموقف ده عدى عليك ولا لأ

أكتب كمان وكمان

متعة القرايه ببلاش معاك حلوه
:)

Rivendell** said...

اهم حاجه انه عاش في الاخر ... انا كمان بدور على المخالب اللي بتنبش بيها الحقيقه زي عبشفيع ... اكتر من رائع

كلبوزة لكن سمباتيك said...

الله جميلة جدا
انت فنان قبل ما تكون طبيب
تعرف انا نفسي ابقي زي عم حسن ده و اسيب زكرى حلوة للناس يفتكروني بيها من بعدي
ربنا يسعد قلبك زي ما اسعدت قلب بنته
بس بيني و بينك كويس اني مدخلتش طب كنت قعدت اعيط جنبها
:)
ربنا يوفقك دايما
خالص تحياتي

مـحـمـد مـفـيـد said...

رائع البوست ده
لانها هي الحقيقه الوحيده في الدنيا

Unknown said...

I noticed several famous writers / doctors, I congratulate you on your level of writing. :). So detailed.

Waiting for more.

توهة said...

ياشيخ حرام عليك أنا قولت الراجل ميت ميت وخلتنى أتأثر وقلت ياعينى كان راجل طيب ... وفى الاخر اشتغاله


بس بجد ممكن تسيب الطب وتحترف الأدب
تعبيرات وأسلوب جميل ودتخيلة المشاعر دى فى بعضها حلو قوى

الحكايه دى فكرتنى بقصه ليوسف ادريس اسمها خمس ساعات .. بس ادريس كان متشائم وموت البطل



يالله بالتوفيق




فانتازياااااااااااااااااااااا
فانتازياااااااااااااااااااااااا

sporefroming-human said...

انا حصل لي نفس الموقف
وكنت داخلة اكتب عنه
واتصدمت لما لقيت الكلام
وقعدت افكر انا حكيت لحد؟؟
نفس الاحاسيس مع فرق اني كنت بتفرج بس
مع فرق اني ماستوعبتش ان الراجل مات الا لما غطوا وشه بالملاية قدام عيني
مع فرق اني رجلي لسه حد دلوقتي منملة
مع فرق اني كبرت خمسين سنة مرة واحدة
حاسة بالكلام قوووووووووي
لاني ببساطة لسه عايشاه من اسبوع
والابداع لازال مستمرا
والتصوير اللي خلاني رجعت تاني لللاستقبال بعد ماكنت قربت انسي

Post a Comment