Monday, April 10, 2006

عرفتوا ليه في متكاظي عادي و في متكاظي قدير

تعودت ان اصل الي المستشفي في نفس الموعد كل يوم لاكون هناك قبل الجميع ، اطلب قهوتي من عم علي- هذا الرجل من علامات المكان ، ربما هو في هذا المبني قبل ان يوجد ، كل تعريجة في وجهه المتغضن حفرتها الام و تجارب البشر لذلك كان وجوده يعطيني احساسا عميقا بالامان وسط الجدران الخضراء الكئيبة – اثناء تناول القهوة اتسلي بمراجعة تذاكر المرضي و بعدها امر بين الاسرة مداعبا احد المرضي او مصلحا من وضع جهاز المحاليل او مستمعا لشكوي احد المرضي بان " المحلول بينقط علي مهله ليه يا دكتور؟".
ذات صباح كانت هناك – قبلي- كانت ذات قامة قصيرة قليلا ووجه طفلة مندهشة تتوسطه عينان تتسعان لكل الام البشر و كل ما ابدعته الطبيعة من جمال ، كانت تسرع في مشيتها بخطوات قصيرة ناظرة الي بقعة غير مرئية في الارض ، و عندما تتكلم تنظر اليك و كأنما افاقت من حلم جميل .
كانت هناك في مملكتي الصباحية و قبلي تتسلي بمراجعة تذاكر المرضي ، تضايقت قليلا من وجود من سيقتحم طقوسي المعتادة و يفسد علي صمتي الصباحي الذي استعين به علي كل صخب اليوم ، لكني ذهبت و تعرفت عليها باعتبارها ستصبح زميلة هنا لفترة من الوقت . لم يكن لحضورها صخب مميز - فهناك اشخاص يحدثون حولهم مجالا من الاهتمام في اي مكان يوجدون فيه حتي دون احداث ضجيج مادي او حتي دونما كلام ، هم فقط يجبرنك علي ان تتابع تحركهم حولك – لكنها لم تكن كذلك و لكني لا انكر ان وجودها كان مصدرا لراحة ما .
من زمان و انا مولع بالاطفال ، ذاك الكيان الهش البسيط المندهش دائما من كل ما يحدث حوله ، الدهشة ذاتها شعور رائع ، هي جوهر الحياة ، الذين توقفوا عن الاندهاش مما تقدمه لنا الحياة يوميا من تجارب مدعين الحكمة هم قد توقفوا عن الحياة ذاتها .
ذات صباح وصلت في موعدي المعتاد ، اخبرتني الممرضة ان هناك طفلة ادخلوها منذ قليل ، ذهبت لاراها ، و في غرفة الكشف وجدتها هناك تجلس بجوار الطفلة و تعطيها قطعة شيكولاتة بل و تنفخ لها بالونا ، ضحكت ، سمعتني و اطرقت ببصرها في خجل نحو النقطة غير المرئية ثم افسحت لي المكان بخطوتها القصيرة السريعة .
في صخب اليوم لم يغب عني هذا المشهد ، كان فقط في الخلفية ، لكنه كاغنية تسمعها في المذياع صباحا قبل ذهابك الي العمل ثم تنساها لتجد نفسك في وسط اليوم لم تكف عن ترديدها عدة مرات بغير وعي .
بمرور الايام بدات ابحث عنها بعيني عند دخولي الي المستشفي ، فقط لاتاكد انها هناك ، ربما ايضا في بعض اوقات الفراغ كنت ابحث عنها لاجلس قليلا حيث تجلس ، كان احساسا لذيذا ان اقول شيئا ثم اجدها تبتسم له .
" لم تات اليوم " غريبة ، اعتدت مشاركتها في طقوس الصباح لكنها لم تات و حتي نهاية اليوم ، طوال طريق العودة كان لحن الخلفية يعلو ، و السؤال يتكرر " لم لم تات؟" ، بل اني امسكت نفسي عدة مرات و انا افكر في هذا السؤال ، و حقيقة بدات انزعج من هذه المساحة التي بدات تاخذها في عقلي ، لم اعد افهم نفسي تماما .
عندما استلقي علي السرير كل ليلة تتداعي عادة افكار كثيرة مشوشة الي راسي من زخم اليوم – جملة من هنا ، لمحة من هناك – و تتدافع لاجد نفسي فجاة في اليوم التالي ، لكن هذه الليلة لم تكن كباقي الليالي ، مكثت طويلا مستيقظا ، لم تتداع الي راسي سوي فكرة واحدة و هذا ما زاد انزعاجي ، طول المقاومة ارهقني و استقبلت صباح اليوم التالي مشوشا محتقن العقل .
هذا الصباح لم تأت ايضا ، هذا ما كان ينقصني ، صار انفرادي بنفسي مستحيلا ، بعد يوم العمل ذهبت الي صديقي ، هو صديقي منذ اول حد للتذكر تستطيع ذاكرتي ان تصل اليه ، كان اكثر ما احبه فيه انه لا يتردد في ان ينفني بشدة عندما يشطح عقلي – و كثيرا ما شطح – ربما كان هذا ما احتاجه .
"ما رايك فيها ؟" و منتظرا عاصفته ، لكنه ضحك و قال " اخيرا رست سفينتك علي بر الامان " ، قضت الجملة علي اخر حبال مقاومتي ، كان هذا اخر ما توقعت ان اسمع و كانت المواجهه مع نفسي صعبة .
ليلة اخري قضيتها اتوسل النوم و توسلي هذا كان يطرد النوم اكثر ، راجعت كل لحظة منذ رايتها اول مرة ، كنت اعيد ترجمة كل شيء و اعيد فهم نفسي ، لكم ارهقت نفسي بالمقاومة ، علمتني الحياة ان اعمل حساب النهاية لذلك كان عقلي يخشي المخاطرة .
هذا الصباح الذي اتصل بليلة الامس بلا نوم ، ومن خلف غشاوة احتقان عيني رايتها و كاني اراها لاول مرة ، احتواني كيانها تماما ووجدت نفسي في دوامة من ارتعاشات و همهمات ماخوذا بكل لمحة لها و مستقبلاتي في قمة حساسيتها تلتقط ادق تفاصيل الاشياء و تري اسرارا للكون في كل حركة من كائن حي و " صباح الخير " .
الايام التالية كانت كلها يوما واحدا متصلا ، في الصباح اذهب الي المستشفي فقط لاري طفلتي هناك ، كانت متعتي ان اعلمها شيئا ، احتويها بعيني ، ارفعها من فوق الارض كيلا تتعثر ، رغم قلة كلامها كان ما اسمعه يكفيني ، كانت اجاباتها مركزة تخرج كنغمات الكمان في مقطوعة فريدة عندما تتحدث عن شعر امل دنقل ، صوت فيروز ، و عشقها للاطفال ، الليل ، اقضيه في نسج ايام الحياة ، اتامل الماضي فاجده قد تنقي من الشوائب ، انظر للمستقبل فاري منزلنا و اطفالنا يلعبون و طفلتي تراقبهم ، ثم اراني و قد انحني ظهري و ابيض شعري اجلس معها و تذكرني بايام الشباب ، كنت اعيش هذا لا كحلم بل واقعا اشعر بكل تفاصيله ، تعلمت طقوسا اخري منها جلوسي علي شاطيء النيل قبل الشروق و معايشة ميلاد النهار .
لم يلازمني طبع في حياتي مثل خوفي من المواجهات لذلك قررت ان اضع يوما محددا لمواجهتي كي لا افر ، و كان اليوم بعد اسبوعين هما مدة سفرها العابر و بعدها ساخوض معركتي ، في اليوم الاخير قبل السفر لازمتها عيني في كل التفاتة ، كنت اطبع التفاتاتها في ذاكرتي حتي لا تغيب عني في السفر .
لاسبوعين انفصل كياني عن ممارسة اي شكل من اشكال الحياة ، اليوم يسلم يوما تاليا و لا حدث ينطبع في عقلي سوي الاستعداد لليوم المرتقب .
جاء اليوم حثيثا ، كنت اسير كالثمل و عقلي مرهق بالاحتمالات ، رأيتها و كأنها المرة الاولي ، نفس الارتعاشة الازلية ، احسست انها تعرف ، انها تنتظر ، انها تسالني ان انطق ، و نطقت ، سيل من الكلمات تتصارع في فمي ، كل حرف يسابق الاحرف الاخري كي يخرج اولا ، و هي تمارس الصمت الخالي من اي تعبير و تنظر الي النقطة غير المرئية التي اعتادت النظر اليها و "ممكن فرصة افكر" .
عندما يعايش الانسان تجربة الصراع تزدحم افكاره لدرجة يتمني معها ان يهرب من نفسه ، مرت ايام صعبة ، دق التليفون و " لنكن اصدقاء ، يظهر مفيش نصيب " .

هذا الصباح ذهبت الي المستشفي في موعدي الصباحي المعتاد ، قابلت صديقي الذي اخبرني انه نقل عمله ليصبح معي في نفس المبني كي يكون بجانبي في هذه الايام الصعبة ، لم افهم .
في وسط اليوم دخلت غرفتي في المستشفي لاجد صديقي منهمك في حوار مع زميل اخر حول ما يسمي بالصدمة النفسية و فقدان الذاكرة المؤقت الذي ينسي فيه الانسان احداثا معينة من بين باقي الاحداث لما تسببه من الم نفسي ، دهشت لان هذا الموضوع بعيد عن تخصصنا ، ربما هي اهتمامات خاصة جديدة لصديقي ، لكني لم افهم من هي التي قال انها اخذت اجازة كي تريحني من مواجهتها، لم اعرف الاسم الذي ذكره ، سالته ، قال انه لم يكن يتحدث عني ، لكني اعرف اصدقائي عندما يكذبون .
ذات صباح بعد شهر ، كانت هناك ، قبلي ، ذات قامة قصيرة قليلا ووجه طفلة مندهشة تتوسطه عينان تتسعان لكل الام البشر و كل ما ابدعته الطبيعة من جمال ، رأتني ، نظرت الي بقعة غير مرئية في الارض و مضت بخطوة سريعة و قصيرة .
اندهشت ، فقد بدا انها تعرفني ، لم يكن لحضورها صخب مميز لكنني احسست براحة ما لوجودها .

محمد عادل عبد الرازق
ابريل 2005

5 ليف يور كومنت هير بليز:

zemos said...

الله الله الله يا محمد يا عبد الرازق
انت مصمم و مصر انك تتحفني كل مره أكتر من اللي قبلها
ماشاء الله... ربنا ما يكتبها عليك.. و تفضل انت تكتب روائع و مآسي على كيف كيفك

Anonymous said...

الله يخرب بيت كده ياعم
ايه الحلاوه دى
واحده كمان علشان الحبايب
يا متكاظى يا قديم يا متشرح
روح يا شيخ ربنا يكرمك

zordeak said...

وهمى وخرافى كالعادة .., انا مش عارف انت ظالم نفسك ليه فى الطب وسايب عالم الكتابة اللى هوه اصلا العالم بتاعك
بحب اسلوبك .., مبحسش معاه بالغربة
القصة جمييلة جدا .., ابداع اخر من ابداعاتك .., مش عارف اقول ايه غير انك متكاظى اصييل
فؤش

jeen said...

ولو انى لسة مش فاهمة لحد دلوقتى يعنى ايه متكاظى بالظبط..
لكن مش مهم .. مادام بيطلع منه حاجات كدة خليه متكاظى ومش مهم انا افهم ..
مش هقولك احساس وتعبيرات وحاجات كدة .. بس هقولك شدتنى لحد اخر كلمة .. والنهاية صدمتنى .. بس ماكانش ينفع تخلص غير كدة ..
صح؟

big big girl...in a big big world said...

اظاهر ان فى علاقه وطيده بين الطب و الادباء
مش عارفه ايه
بس الاكيد ان الالم بيحرك جوانا حجات كتير اوى
و انتم معشر الاطباء اكثرنا احساسا بالالم
كالعاده روعه

Post a Comment